الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الإسراء: 95] {أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم} [هود: 28] {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون} [البقرة: 170] وإذا بطل طريقة التقليد صار حديث التربص ضائعًا يجب قبول قول من يدعي النبوّة بعد ظهور المعجزة من غير توقف. ثم حكى أن نوحًا عليه السلام لما علم إصرارهم على الكفر {قال رب انصرني} أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي ففي نصرته إهلاكهم، أو انصرني بدل تكذيبهم إياي كقولك هذا بذاك والمراد بدلني من غم التكذيب سلوة النصرة أو انصرني بإنجاز ما كذبوني فيه وهو وعد العذاب في قوله: {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} [الأعراف: 59] وباقي القصة إلى قوله: {إنهم مغرقون} قد مر تفسير مثلها في سورة هود.ومعنى {فأسلك} أدخل فيها وقد مر في أول الحجر في قوله: {كذلك نسلكه} [الاية: 12] و{سبق عليه القول} نقيض {سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101] لأن على تستعمل في الضار كما أن اللام تستعمل في النافع. وقد جاء زيادة منهم هاهنا على الأصل وحذفت في هود ليحسن عطف {ومن آمن} من غير التباس وبشاعة. قيل: في قوله: {بأعيننا} على الجمع فساد قول المشبهة إن الله خلق آدم على صورته. أما قوله: {فإذا استويت} أي ركبت واستوليت {أنت ومن معك على الفلك فقل} لم يقل فقولوا لأن أول الكلام مبني على خطاب نوح، ولأن قول النبي قول الأمة مع ما فيه من الإشعار بفضله ومن إظهار الكبرياء وأن كل أحد لا يليق لخطاب رب العزة. وفي الأمر بالحمد على هلاكهم تقبيح صورة الظلمة كقوله: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} [الأنعام: 45] وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق جزمًا لأنه كان عرفه أن ذلك سبب نجاتهم من الاشتراك مع الظلمة في حكم الإهلاك. ثم أمره أن يسأل ما هو أهم وأنفع أن ينزله في السفينة بدليل عطف {وقل} على جزاء {فإذا استويت} أو ينزله في الأرض عند خروجه من السفينة لأنه لا يبعد أن يدعو عند ركوب السفينة بما يتعلق بالخروج منها {منزلًا} اي إنزالًا أو موضع إنزال يبارك له فيه بزيادة إعطاء خير الدارين وقد أمره أن يشفع بالدعاء الثناء المطابق للمسألة وهو قوله: {وأنت خير المنزلين} أي إنزالًا وذلك أنه أقدر على الحفظ وأعلم بحال النازل بل كل منزل فإنه لا يقدر على إيصال الخير إلى النازل إلا بإقداره وتمكينه وإلقاء تلك الداعية في قلبه {إن في ذلك} الذي ذكر من القصة {لآيات} لعبرًا ودلالات لمن اعتبر وادّكر فإن إظهار تلك المياه العظيمة والذهاب بها إلى مقارّها لا يقدر عليها إلا القدير الخبير {وإن كنا} هي المخففة من الثقيلة واللام في {لمبتلين} هي الفارقة.والمعنى وإن الشأن والقصة كما مبتلين أي مصيبين قوم نوح ببلاء الغرق أو مختبرين بهذه الآيات من يخلفهم لننظر من يعتبر كقوله: {ولقد تركناها آية فهل من مدكر} [القمر: 15] وقيل: المراد كما يعاقب بالغرق من كفر فقد يمتحن به من لم يكفر على وجه المصلحة لا التعذيب، فليس الغرق كله على وجه واحد. اهـ.
.التفسير المأثور: قال السيوطي:{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}.أخرج ابن جرير عن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {فاسلك فيها} الآية. يقول: اجعل معك في السفينة من كل زوجين إثنين.{وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)}.أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه {وقل رب أنزلني منزلًا مباركًا} قال لنوح حين أنزل من السفينة.وأخرج عبد بن حميد عن عاصم رضي الله عنه أنه قرأ {أنزلني منزلًا} بنصب الميم وخفض الزاي.وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه {وقل ربي انزلني منزلًا مباركًا وأنت خير المنزلين} قال: يعلمكم كيف تقولون إذا ركبتم، وكيف تقولون إذا نزلتم، أما عند الركوب {فسبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} [الزخرف: 13] و{بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم} [هود: 41] وعند النزول {رب أنزلني منزلًا مباركًا وأنت خير المنزلين}.{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}.أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه {إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين} قال: أي ابتلى الناس قبلكم. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين:{وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)}.قوله: {مُنزَلًا مُّبَارَكًا}: قرأ أبو بكرٍ فتح الميم وكسر الزاي، والباقون بضمِّ الميم وفتحِ الزاي. والمَنْزِل والمُنْزَل كلٌّ منهما يحتملُ أَنْ يكونَ اسمَ مصدرٍ وهو الإِنزالُ والنُّزُول، وأَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ للنزولِ والإِنزالِ، إلاَّ أنَّ القياسَ {مُنْزَلًا} بالضم والفتح لقوله: {أَنْزِلْني}، وأما الفتح والكسر فعلى نيابةِ مصدرٍ الثلاثي مَناب مصدرِ الرباعي كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17]، وقد تقدم نظيرُه في مَدْخَل ومُدْخَل في سورةِ النساء.و{إنْ} في قوله: {وَإِن كُنَّا} مخففةٌ. واللامُ فارقةٌ. وقيل: إنْ نافيةٌ، واللامُ بمعنى إلاَّ، وقد تقدَّم ذلك غيرَ مرة. اهـ..من لطائف وفوائد المفسرين: من لطائف القشيري في الآية:قال عليه الرحمة:{وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)}.الإنزالُ المباركُ أن يكون بالله ولله، وعلى شهودِ الله من غير غفلة عن الله، ولا مخالفًا لأمر الله.ويقال الإنزال المبارك الاستيعاب بشهود الوصف عنك، ثم الاستغراق باستيلاء سلطان القُرْب عليك، ثم الاستهلاك بإحداق أنوار التجلِّي حتى لا تبقى عين ولا أثر فإذا تَمَّ هذا ودام هذا فهو نزولٌ بساحات الحقيقة مبارك؛ لأنك بلا أنت... بكليتك من غير بقيةٍ أو أَثرٍ عنك. اهـ..التفسير الإشاري: قال نظام الدين النيسابوري:التأويل: الفلاح الظفر والفوز والبقاء أي ظفر المؤمنون بالإيمان الحقيقي المقيد بجميع الشرائط بنفوسهم ببذلها في الله، وفازوا بالوصول إلى الله وبقوابه بعد أن فنوا فيه. إلخ. شوع في الظاهر انتكاس الراس وغض العين واستماع الأذن وقراءة اللسان ووضع اليمين على الشمال كالعبيد، واعتدال الظهر في القيام وانحناؤه في الركوع وثبات القدمين.والخشوع في الباطن سكون النفس عن الخواطر والهواجس وحضور القلب لمعاني القراءة والأذكار ومراقبة السر بترك الالتفات إلى المكوّنات، واستغراق الروح في بحر المحبة وذوبانه عند تجلي صفات الجمال والجلال. واللغو كل ما يشغلك عن الله. والزكاة تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة بل عن حب الدنيا لأنه راس خطيئة {إلا على أزواجهم} في كلمة على دلالة على أنهم يجب أن يستولوا على الأزواج لا بالعكس وإلا كن عدوًّا لهم كقوله: {إن من أزواجكم وأولادكم عدوًا لكم فاحذروهم} [التغابن: 14] وعلامة الاستيلاء على الأزواج أن يبتغي بالنكاح النسل ورعاية السنة في أوانها لاحظ النفس وإلا كان متجاوزًا طريق الكمال {لأمانتهم} يعني التي حملها الإنسان {وعهدهم} هو عهد الميثاق في الأزل يحافظون الفرق بين المحافظة والخشوع، أن الخشوع معتبر في نفس الصلاة، والمحافظة معتبرة فيها وفيما قبلها من الشرائط وفيما بعدها وهو أن لا يفعل ما يحبطها ويضيعها الوارثون لأنهم أحياء القلوب وقد نالوا من المراتب ما خلفتها أموات القلوب {من سلالة} لأنه سل من جميع أجزاء الأرض فجاء مختلف الألوان والأخلاق حسب اختلاف أجزاء الطين. بل بحسب اختلاف المركبات من الطين. ففيه حرص الفأرة والنملة، وشهوة الحمار والعصفور، وغضب الفهد والأسد، وكبر النمر، وبخل الكلب، وشره الخنزير، وحقد الحية، وغير ذلك من الصفات الذميمة، وفيه شجاعة السد، وسخاوة الديك، وقناعة البوم، وحلم الجمل، وتواضع الهرة، ووفاء الكلب، وبكور الغراب، وهمة البازي ونحوها من الأخلاق الحميدة {فتبارك الله أحسن الخالقين} لأنه خلق أحسن المخلوقين. أما من حيث الصورة فلأنه تعالى خلق من نطفة متشابهة الأجزاء بدنًا مختلف الأبعاض والأعضاء كاللحم والشحم والعظم والعروق والشعر والظفر والعصب والعروق والمخ والأنف والفم واليد والرجل وغيرها مما يشهد لبعضها علم التشريح. وأما من حيث المعنى فلأنه خلق الإنسان مستعدًا لحمل الأمانة التي أبى حملها السموات والأرض والجبال وسيجيء تحقيق ذلك في موضعه {ثم إنكم بعد ذلك لميتون} إلى قوله: {تبعثون} فيه أن الإنسان قابل لموت القلب ولموت النفس ولحشرهما. وفي موت أحدهما حياة الآخر وحشره. وموت القلب عبارة عن انغماسه وتستره في حجب الغواشي الاتية عليه من طرق الحواس الظاهرة وحاستي الوهم والخيال فلذلك قال: {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} هي الأغشية والحجب من الجهات المذكورة {وما كنا عن} مصالح {الخلق غافلين} فلا نترك العبد في تلك الحجب بدليل قوله: {وأنزلنا من السماء} سماء العناية {ماء} الرحمة {بقدر} استعداد السالك {فأسكناه} في أرض وجوده {فأنشأنا لكم به جنات من نخيل} المعارف {وأعناب} الكشوف وشجرة الخفي الذي يخرج من طور سيناء الروح بتأثير تجلي أنوار الصفات {تنبت} بدهن حسن الاستعداد لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة لأنه سر بين الله وبين الروح. {وصبغ} لآكل الكونين بقوة الهمة. ثم أخبر عن نعم الغلب أن فيها منافع لأنها آلة تحصيل الكمال {وعليها وعلى} ذلك الشريعة في سفر السير إلى الله {تحملونه} وتأويل قصة نوح قد مر في سورة هود والله أعلم. اهـ..تفسير الآيات (31- 35): قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)}..مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما بين سبحانه وتعالى تكذيبهم وما عذبهم به، وكان القياس موجبًا لأن من يأتي يعدهم يخشى مثل مصرعهم، فيسلك غير سبيلهم، ويقول غير قيلهم، بين أنه لم تنفعهم العبرة، فارتكبوا مثل أحوالهم، وزادوا على أقوالهم وأفعالهم، لإرادة ذلك من الفاعل المختار، الواحد القهار، وأيضًا فإنه لما كان المقصود- مع التهديد والدلالة على القدرة والاختيار- الدلالة على تخصيص المؤمنين بالفلاح والبقاء بعد الأعداء، وكان إهلاك المترفين أدل على ذلك، اقتصر على ذكرهم وأبهمهم ليصح تنزيل قصتهم على كل من ادعى فيهم الإتراف من الكفرة، ويترجح إرادة عاد لما أعطوا مع ذلك من قوة الأبدان وعظم الأجسام، وبذلك قال ابن عباس- رضي الله عنهما-، وإرادة ثمود لما في الشعراء والقمر مما يشابه بعض قولهم هنا، وللتعبير عن عذابهم بالصيحة ولموافقتهم لقوم نوح في تعليل ردهم بكونه بشرًا، وطوى الإخبار عمن بعدهم بغير التكذيب والإهلاك لعدم الحاجة إلى ذكر شيء غيره، فقال: {ثم أنشأنا} أي أحدثنا وأحيينا وربينا بما لنا من العظمة.ولما لم يستغرقوا زمان البعد، أتى بالجار فقال: {من بعدهم قرنًا} أي أمة وجيلًا.ولما كان ربما ظن ظان أنهم فرقة من المهلكين نجوا من عذاب سائرهم كما يكون في حروب سائر الملوك، عبر عن إنجائهم بإنشائهم، حقق أنهم أحدثوا بعدهم فقال: {آخرين فأرسلنا} أي فتعقب إنشاءنا لهم وتسبب عنه أن أرسلنا.ولما كان المقصود الإبلاغ في التسلية، عدي الفعل ب في دلالة على أنه عمهم بالإبلاغ كما يعم المظروف الظرف، حتر لم يدع واحدًا منهم إلا أبلغ في أمره فقال: {فيهم رسولًا منهم} فكان القياس يقتضي مبادرتهم لاتباعه لعلمهم بما حل بمن قبلهم لأجل التكذيب، ولمعرفتهم غاية المعرفة لكون النبي منهم، بما جعلناه عليه المحاسن، وما زيناه به من الفضائل، ولأن عزه عزهم، ولدعائه لهم إلى ما لا يخفى حسنه على عاقل، ولا يأباه منصف؛ ثم بين ما أرسل به بقوله: {أن اعبدوا الله} أي وحده لأنه لا مكافىء له، ولذا حفظ اسمه فكان لا سمي له؛ ثم علل ذلك بقوله: {ما لكم} ودل على الاستغراق بقوله: {من إله غيره}.
|